ووفق التقرير، غلبت الأجواء البروتوكولية على الحدث الذي شهد حضور رئيس الحكومة وعدد من كبار المسؤولين، حيث جرى الترويج لمبادرات حكومية باعتبارها خطوات إصلاحية، من دون أن يواكب ذلك أي نقد ذاتي جاد أو اعتراف بحجم الإخفاقات القائمة.
واعتبر التقرير أن هذا التناقض يعكس فجوة واسعة بين الخطاب الرسمي والواقع اليومي الذي يلمسه المواطنون.
وسلط التقرير الضوء على إطلاق منصة رقيب الرقمية التابعة لهيئة الرقابة الإدارية، التي قدمت كأداة لمتابعة الأداء الحكومي واستقبال بلاغات الفساد، معتبرا أن هذه الخطوة بدت أقرب إلى إعلان نوايا إصلاحية لا تنسجم مع واقع تتجذر فيه ممارسات الفساد، ما ساهم في تآكل الثقة الشعبية بالمؤسسات الرقابية.
وأشار التقرير إلى أن ليبيا لا تعاني من نقص في الهياكل المعنية بمكافحة الفساد، إذ تضم منظومة واسعة تشمل ديوان المحاسبة، وهيئة الرقابة الإدارية، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ومكتب النائب العام، إلى جانب وحدات رقابية داخل الوزارات.
غير أن تعدد هذه الجهات، وفق التقرير، لم ينعكس في نتائج ملموسة، بل أسفر عن تداخل في الصلاحيات، وكلفة مالية مرتفعة، مع غموض حول الاستقلالية وغياب مؤشرات حقيقية للفعالية.
وفي السياق نفسه، لفت التقرير إلى اختلالات بنيوية في القطاع العام، موضحا أن كتلة المرتبات استحوذت خلال عام 2024 على نحو 55% من إجمالي ميزانية الدولة، بما يعكس تضخم الجهاز الإداري وعجزه عن تحقيق أداء منتج، رغم ما يُضخ فيه من موارد.
وعلى مستوى المؤشرات الدولية، أشار التقرير إلى أن ليبيا واصلت التراجع في مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، محتلة المرتبة 173 من أصل 180 دولة خلال عام 2024، بحصولها على 13 نقطة فقط من أصل 100، في تراجع إضافي مقارنة بالعام السابق، ما يعزز، بحسب التقرير، محدودية أثر الإصلاحات المعلنة.
وأكد التقرير أن منظمات مستقلة تشاطر هذا التقييم، معتبرة أن ما تحقق لا يتجاوز تغييرات طفيفة في منظومة تعاني فسادا ممنهجا، وأن تعدد المنصات الرقمية لم ينجح في كسر الديناميكيات الراسخة، لتبقى جهود الإصلاح أقرب إلى الرمزية منها إلى التغيير الحقيقي.
كما أشار إلى أن مكتب النائب العام يتلقى بلاغات شبه أسبوعية عن قضايا اختلاس وسوء استخدام للمال العام، كثير منها بمبالغ كبيرة تحظى بتفاعل واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن بطء التحقيقات وندرة الإدانة، بحسب التقرير، يعززان الشكوك حول جدية المحاسبة، في ظل اعتقاد سائد بأن النفوذ السياسي يحمي المتورطين من المساءلة.
وتوقف التقرير عند عيوب جوهرية في منصة رقيب، أبرزها غياب خيار إخفاء هوية المبلغ، واشتراط إدخال الرقم الوطني وبيانات شخصية كاملة، ما اعتبره عامل ردع محتمل للمواطنين في بيئة تفتقر إلى حماية فعالة للشهود والمبلغين.
ولفت التقرير إلى أن آثار الفساد امتدت إلى قطاعات شديدة الحساسية، مثل أنظمة الرقم الوطني وجوازات السفر، حيث أتاح التزوير حصول غير مستحقين على امتيازات وخدمات، فيما وصفه التقرير بأنه تهديد مباشر للأمن المجتمعي والاستقرار الاقتصادي.
وفي ختام تحليله، خلص التقرير إلى أن التشرذم المؤسسي، والتدخل السياسي، وضعف إنفاذ القانون، وفرة عائدات النفط دون رقابة فعالة، جميعها عوامل تُبقي مكافحة الفساد في إطار إجراءات شكلية، من دون إصلاحات هيكلية حقيقية، ما يفاقم فقدان الثقة في الدولة ومؤسساتها، ويقوّض فرص الاستقرار والتنمية.