ووصف التقرير الحالة الليبية بأنها مثال صارخ على حدود ما يُسمّيه بـ”نهج السحق الأمني”، القائم على تفكيك شبكات الاتجار بالبشر بالقوة دون معالجة الجذور السياسية التي تغذي الظاهرة.
وأكد الباحثون أن الاعتماد المفرط على العدالة الجنائية وحدها في بلدٍ منقسم مثل ليبيا لا يمكن أن ينجح في الحد من الهجرة، ما لم يُقرن بعملية سياسية تعالج غياب الحوكمة والانقسام المؤسسي.
وأشار التقرير إلى أن إيطاليا والاتحاد الأوروبي يستندان في تبرير سياساتهما إلى انخفاض أعداد المهاجرين العابرين للمتوسط، غير أن التجربة الليبية “تقدّم درسا تحذيريا”، إذ إن الانتهاكات داخل مراكز الاحتجاز موثقة على نطاق واسع ولا يمكن الدفاع عنها أخلاقيا أو قانونيا.
وأضاف التقرير أن التعاون الأوروبي–الليبي “موضع تساؤل وفقا للمبادئ الأوروبية نفسها”، في ظل غياب الرقابة الفعالة وازدياد الاعتماد على جماعات محلية غير خاضعة للمساءلة.
وبين التقرير أن الاتفاقات بين ليبيا وأوروبا شملت تمويلا وتدريبا مباشرا وغير مباشر لخفر السواحل الليبي ومجاميع تشرف على مراكز الاحتجاز، فضلًا عن دعم مالي عبر “صندوق الاتحاد الأوروبي الاستئماني لإفريقيا”.
وأشار إلى أن هذا التمويل، وإن كان يهدف للحد من الهجرة، أسهم في تعزيز نفوذ أطراف مسلحة داخل ليبيا على حساب المؤسسات الرسمية، ما أضعف قدرة الأوروبيين على ضبط النتائج أو فرض المعايير الحقوقية.
وأكد التقرير أن التعامل الانتقائي مع جهات ليبية محددة ترتّبت عليه كلفة سياسية كبيرة، وأضعف نفوذ الأوروبيين على مسار الأحداث داخل البلاد.
وضرب مثالا بقضية أسامة إنجيم (المعروف بالمصري) الذي أعيد إلى ليبيا رغم كونه مطلوبا للمحكمة الجنائية الدولية، معتبرا ذلك مؤشرا على تآكل قدرة أوروبا على فرض المعايير القانونية التي تدّعي الدفاع عنها.
وأوضحت الدراسة أن “التعاقد من الباطن” في مراقبة الحدود — أي تفويض مهام السيطرة لأطراف داخل دول هشة مثل ليبيا — يقوّض الأهداف الأوسع للسياسات الأوروبية، لأنه يرسّخ الانقسام ويخلق علاقات تبعية يصعب تجاوزها.
وأضافت أن محاولات “وقف الهجرة من المنبع” أفرزت واقعًا يعزز قوة الميليشيات على حساب الدولة، ما جعل ليبيا رهينة لمعادلة أمنية بلا أفق سياسي.
ودعا التقرير حكومة بريطانيا إلى اعتماد نهج مزدوج يوازن بين الأمن والحوكمة، عبر فرض مساءلة دائمة على الجهات الفاعلة في ليبيا، وتجفيف موارد المهربين سياسيا وماليا.
واستشهد التقرير بقرار تجميد أموال “المصري” التي تتجاوز 1.5 مليون جنيه إسترليني باعتباره خطوة في الاتجاه الصحيح، مقترحًا تكرار الآلية مع شخصيات أخرى متورطة في شبكات التهريب.
واختتم تشاتام هاوس تقريره بالقول إن التجربة الليبية تمثل “تحذيرًا صريحًا لأوروبا” بأن الردع الأمني وحده لا يمكن أن يحل أزمة الهجرة، وأن الحل الحقيقي يمر عبر بناء دولة ليبية مستقرة ذات مؤسسات خاضعة للمساءلة.